jamal95@omhem.se
الحوار المتمدن - العدد: 2441 - 2008 / 10 / 21
الايباحية التاريخية القاتلة للسوق الراسمالية واسفافها الحشري المتغول وارتكابها المعاصي باسم تحرير الاقتصاد كما دعت له الليبرالية الاولى ـ دعه يعبر دعه يمر ـ هي وفي اقصى صورها لا تتجلى الا في مراحلها العليا ـ الامبريالية ـ وما تلاها من انفلات ـ نيو امبريالي ونيوليبرالي ـ عولمي ، حيث كانت هي بعينها الحاضنة الحيوية للجينات الذي منها انطلقت فيروسات مرض فقدان المناعة المالي للنظام الراسمالي ـ تمييزا له عن مرض فقدان المناعة المكتسب الذي يصيب جهاز المناعة الطبيعي للانسان ـ هذا الايدز المالي هو احد اهم اسباب اعراض الانهيار الكبير الحالي الذي سيتم تجاوزه بانعاش مصطنع للجسد الموبوء ليعاود من جديد نشاطه بمسكنات فعالة لكن الاعراض ستظهر مجددا وحتما ستكون الانهيارات متتالية وبمسافات متفاوتة حتى الاحتضار النهائي للنظام الراسمالي ، حيث ستنفي الراسمالية نفسها بنفسها لتتفسخ الى عناصر اولية في لبنات البناء الانساني العالمي الجديد الذي سيجعلها مرحلة من مراحل التاريخ وليست نهاية له كما يدعي فاكوياما ، فلا مكان في الازل لنظام لا يجعل من الانسان اثمن راس مال له ، نظام السوق العبثي الذي يقامر بمقدرات البشر لمصلحة طغمة مالية احتكارية لا تتورع عن المقامرة بالمستقبل كله من اجل دوران عجلة ارباحها الخيالية والتي تحولت تدريجيا الى ارقام وهمية لا يمكن حسابها ، النظام الرسمالي بدأ يستنفذ عمره الافتراضي ولم يعد صالحا للحياة ، ان لا مسؤوليته وتقديسه لنفسه تجعله طريقا لا يؤدي في حالة عدم كبح جماحه الى الموت المؤكد ، انه اكثر الانظمة فتكا بالانسان ومحيطه وتطلعاته الجميلة ، لقد حول الانسان الى بضاعة مستعبدة بحيث تجاوز ببشاعته بشاعة العبودية الاولى والاقطاع الذي ازاحه !
ان حتمية ولوج المجتمعات البشرية هذه التشكيلة كمقدمة موضوعية لحلول نمط أجتماعي اقتصادي أخرمتعافي ومحصن ومنيع ضد كل جراثيم ومساوئ الملكية الخاصة التي تعاقبت على البشرية في كل انماط تطورها منذ ايام مجتمعات العبودية مرورا بالاقطاعية حتى ان تتوجت بالراسمالية ومراتبها الاحتكارية العليا التي تعتبر الانسان مشروع راس مالي صرف قيمته تكمن بمقدار ما يدره من فوائد على اصحاب الرساميل المستثمرة بالسوق ، حيث كل شيء مسعر حسب قانون العرض والطلب ؛
لا تعني البتة انعدام امكانية القفز الى الهاوية فالمخاطر الحقيقية التي توفرها الامكانات الهائلة والانجازات العلمية والتكنلوجية غير المسبوقة التي حققها الانسان عبر كل تاريخه القديم والحديث والتي تستثمرها الطبقة الراسمالية الاحتكارية المتسيدة عالميا بشكل بشع وجشع وبلاحدود لاستغلال الانسان للانسان ومن الاستغلال الاناني للطبيعة قد تسفر عن كوارث كونية تكلف البشرية وجودها الفعلي ، فالايدز المالي هو صنو عضوي لمبادئ اقتصاد السوق الحر واللمنافسة مطلقة العنان التي لا ينقطع وصلها مع الفوضى الدائمة للانتاج ، وهو ليس فقط وليد شرعي للزواج الكاثوليكي بين راس المال البنكي ـ راس المال المالي ـ وراس المال الصناعي ، واستفحاله يعني تشبع دورات الدم الصغرى والكبرى لاقتصاديات الدول الاحتكارية بافرازاته كمركب تاريخي بنيوي يتضاعف دوره ويتضخم بتورمات تضاعف حجمه بمختلف اجهزة وتخصصات الكيان الراسمالي العالمي وهي تورمات غير حميدة فيها نطف سائلة معدية تنتقل عبر شبكاتها المتسرطنة وتحدث خللا في الخلايا الطبيعية التي تتعامل معها ـ اقتصاديات الدول التابعة ـ !
تتميز اعراض الايدز المالي بنوبات متكررة من دورات الركود والكساد والانتعاش المصحوب بالتضخم ثم الاستقرار المؤقت ليعاود الكرة حتى يصل الى الانهيار الكلي !
ما حصل ايام الكساد الكبير 1929 في امريكا ذاتها هو عينة نوعية من عينات هذه النوبات حيث انهارت البورصة وافلست كبريات المؤسسات المالية وتضاعفت نسب البطالة وعم الفقر شرائح واسعة من الطبقة المتوسطة واقفلت الشركات والمعامل المتضررة ابوابها ناهيك عن طبقة العمال والمعدمين !
لقد ساهمت السياسات الكولونيالية للدول الامبريالية في تنفيس حدة اعراض النوبات العامة والخاصة للراسمالية العالمية وجعلها اكثر نقاهة واستعدادا للتمدد والوفرة ، فنظام المستعمرات القديم والجديد يشكل اكبر عملية استثمار قسري في تاريخ البشرية قاطبة ساهم في عولمة الايدز المالي وجعله احد العوامل المهمة لارتباط وتبعية البلدان المستعمرة له ، فنهب الثروات وتسيير الشعوب لاعمال السخرة والاستهلاك المبتذل لفروقات قيم الدورات الاقتصادية في دول الشمال والجنوب ونقل الصناعات الوسخة الى البلدان التابعة واستثمار الايادي العاملة الرخيصة فيها اضافة الى اعتبارها سوقا مفتوحا ليس لتصريف بضائعها فقط وانما سوقا لتصريف ازماتها ومخلفات صناعاتها ومنجم لتصدير الخامات الزراعية والمعدنية والبشرية !
اما الحروب العالمية الاولى والثانية فهي نموذج كوني للتنافس الاحتكاري بين الدول الامبريالية ذاتها باتجاه اعادة تقاسم العالم وهذه الحروب ليست بعيدة عن نوبات الايدز المالي ، بل ان تلك الحروب هي اعراض عنيفة لتلك النوبات ، فقد سبقت الحروب العالمية الاولى ازمة مالية عالمية طاحنة وكذلك الحال بالنسبة للحرب العالمية الثانية حيث كانت نوباتها اشد واكثر شمولا وكانت لها جذور متصلة بنوبات الحرب الاولى حتى عام 1929 حيث ذروة الازمة المالية الجديدة وحتى عام 1939 تاريخ اندلاع الحرب الثانية ، ومن الجدير بالاشارة هنا ان مع كل ازمة عالمية حادة كان هناك افرازت سياسية واجتماعية وفكرية تواكبها ، فاطلاق يد الدولة مجددا في المجالات التي اعتبرت خارج اختصاصها وتصاعد سباق التسلح ، وتزايد اعداد جيش العاطلين عن العمل واندحار الطبقة المتوسطة والفقر المتقع للطبقة العاملة يرافقه اشتداد الصراع الفكري بين التيار المتطرف للراسمالية المعبر عنه في الاتجاهات النازية والفاشية والعنصرية والمركزية الغربية والهيمنة الانكلو سكسونية والتي تقابلها حركة مقاومة يسارية داعية للثورة الاجتماعية لدمقرطة العالم واقتصاده او جعله اقتصادا اشتراكيا !
بعد نهاية الحرب الباردة والاستفراد الامريكي شبه المطلق بساحة السباق العالمي سياسيا وعسكريا واقتصاديا اصبحت بداية الالفية الثالثة بداية حثيثة للامبريالية الامريكية في محاولة تعميم نموذجها واستباق اي تطلع مخالف باضعاف قدرته على تمويل ذاته بالطاقة الضرورية لنموه المنافس ، لذلك راحت امريكا تشعل الحروب وتغزو البلدان وتجيش الجيوش وترسم خرائط الطريق للوصول الى الاهداف الحقيقية ، تحت ذرائع محاربة الارهاب واشاعة الديمقراطية في العالم ، فكانت حرب افغانستان والعراق والبقية تاتي ، ان هذه السياسات وتحديدا الحروب قد انعكست سلبا على مكانة امريكا سياسيا واقتصاديا واخلاقيا ولم تمكنها بعد من تحقيق اهدافها غير المعلنة مما وفر عوامل مساعدة جديدة لمضاعفة اضرار النوبات الكبيرة والصغيرة في الاقتصاد الامريكي ومن بعده الاقتصاد العالمي ، ويبدو ان امريكا تريد استرداد ما خسرته في مغامراتها من خلال توريط حلفائها بتحمل اعباء النتائج مضاعفة ماليا عبر تعميم الخسارة وميدانيا عبر المشاركة في تمويل الحملات العسكرية من افغانستان مرورا بالقوقاز وايران والعراق وحتى اشعار اخر، وفي كلا الحالتين فان الايدز المالي هو حالة معدية وباتجاه متعاكس في كل مكونات النظام الراسمالي العالمي رغم ان الحالة الامريكية هي الاكثرعرضة للتدهور بحكم اسرافها وتماديها في تحدي المعالجات التي تخفف من حدة المرض !
المرض القاتل هذا ـ الايدز المالي المصاحب للراسمالية الاحتكارية ـ ليس حالة شاذة او عرضية ناتجة عن اخطاء في الحسابات او السياسات الاقتصادية والتي يمكن معالجتها باعادة جدولة او انقاذ للقروض المتعثرة او تعويض للقروض الميتة او بخفض سعر الفائدة وضخ ما امكن من السيولة للبنوك ومراقبة عملها ومضارباتها ودعوتها للتنسيق فيما بينها اوفي توسيع مجلس التنسيق بين الدول الراسمالية المتقدمة ليشمل دول اخرى مؤثرة كالصين والهند وروسيا والبرازيل او في استحداث صناديق دولية جديدة تكون مهمتها محددة في توفير الاموال الازمة لانقاذ البنوك والاسهم من الافلاس ، صحيح ان القضية تبدو لاول وهلة مجرد قضية ـ قارض ومقروض وما بينهما ـ علاقة مؤطرة بفوائد اوتعثر وافلاس ، لكن قيم الذي بينهما متحركة بمؤثرات ليست بالضرورة نابعة من مواقف القارض نفسه او المقروض ، فالبنوك المعنية ليست مجرد وسيط محايد لقاء اتعاب ربوية انها شبكة عنكبوتية متداخلة تدخلها الاستثمارات والمدخرات والودائع وفيها الاسهم والسندات وفيها يتم شراء وبيع لقيم ثابتة ومتحركة وهذه الشبكة عابرة للقارات وهي ايضا اكثر المؤسسات الراسمالية المعاصرة استثمارا للاموال وعليه فمن خلالها تتحدد اسعار السوق العاجلة والاجلة وايضا اسعار الفوائد قصيرة وطويلة الامد ، واسعارالعملات وسلاتها ، اذن هي القلب النابض لجسد الاقتصاد الراسمالي بمجمله واضطرابها يعني عمليا اضطرابا للاقتصاد بدورته الكاملة ، ولانها بنوك عابرة للقارات باسهمها وقروضها ومدخراتها فالاثار الناتجة عن تقلبات اوضاعها تنعكس على الاقتصاد العالمي ، ولكل حسب درجة انتشاره وتغلغله ، واذا استندنا على مقولة "ان السياسة تكثيف للاقتصاد" فان السياسة الرسمية ستكون عمليا معبرة عن مصالح تلك المؤسسات المالية واذا جارينا مقولة ان الحروب هي "سياسة بوسائل عنيفة " فان الحروب هي استجابات غير مباشرة لحاجات ومصالح المؤسسات المالية الراسمالية الاحتكارية ، وليس اكتشافا جديدا اذا قلنا ان اكثر من 30 % من راس مال الاسواق المالية العالمية تتركز في امريكا وحدها بمعنى ان امريكا عمليا هي من يتحكم باكبر قدرة مالية عالمية واللبنوك الكبرى فيها تأثير عالمي هائل في اوقات السلم والحرب واوقات الانتعاش والكساد ، وكما نعلم فان المؤسسات الاقتصادية الدولية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية كلها مؤسسات تقاد عمليا من قبل الدول الامبريالية ذاتها وتحديدا من المساهم الاكبر فيها امريكا مما يجعل من الازمات ومن يعالجها بحالة من الدوران في ذات الدائرة المريضة ، وكثيرا ما استخدمت تلك المؤسسات كادوات لفرض الوصاية على البلدان ذات الاقتصاديات الناشئة والضعيفة وكانها تستكمل الدور الذي كانت قد لعبته جيوش الدول الاستعمارية في البلدان المستعمرة ، ويتضح من الاجتماعات الاخيرة التي عقدها ممثلو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي انهما لا يملكان الكثير لمساعدة البلدان النامية لتجاوز اضرار الازمة المالية العالمية الحالية ، وانهما يدعمان توجه الدول الكبرى والصغرى للاشراف على البنوك ومدها بالسيولة الازمة ، وهما بذلك يناقضان توصياتهما التي تشكل لازمة لعملهما ـ كف يد الدول من التدخل في شؤون اسواق المال والاعمال ـ مما يؤكد ان الحلول التي تعالج بها الازمة هي حلول صغيرة ومؤقتة لازمة كبيرة ومزمنة !
يتضح ايضا من خلال متابعة دقيقة لاخبار الازمة الاخيرة وتداعياتها ان هناك نوع من الازمات او الصعقات المفتعلة والتي ليس لها مبرر اقتصادي فعلي وانما هي رد فعل استباقي لتوقع معين او تاثر نفسي من حالة مقلقلة ، او محاولة لاستثمار ردود الافعال على خطوة مالية غير مبررة ، وعليه هناك ازمات وهمية ناتجة عن الخيالات المريضة للمستفيدين منها ، وازمات حقيقية ناتجة عن التناقضات الداخلية للنظام الراسمالي ذاته وامراضه الوبائية التي لا حصر لها كمرض الايدز المالي والذي يسهل انتقال عدواه كلما زاد الاعتماد على الدولار كمعادل عالمي للعملة وكلما ارتبطت اقتصاديات الدول الاخرى بعجلة الاقتصاد الامريكي ، ان نجاة البنوك المحلية من الاقتلاع بسبب هبوب عواصف الازمة يدلل على انه كلما اقتربت البنوك من مركز الايدز المالي كلما كانت عرضة للهلاك وكلما ابتعدت عنه كلما كانت خسائرها قليلة !
لان الراسمالية تحفرقبرها بيدها كضرورة تاريخية تحتمها تناقضات تفاوت التطور بين قوى الانتاج وعلاقاتها عندما تصل الى الذروة ، ولانها لا تملك القدرة على التوقف عن ممارسة دورها التاريخي هذا فهي بالتالي غير قادرة على التعافي لكنها قادرة على ايجاد المسكنات والمنفسات والمؤثرات التي تطيل من عمرها الافتراضي ، لم تعد القيمة المضافة التي تفرزها قوة العمل وحدها من يمنح راس المال ارباحا جديدة وانما صارت للقيم الافتراضية المحددة بالنقد كغطاء للاصول الثابتة والمتحركة والمحتملة مصدرا خياليا للمزيد من الارباح واصبحت البورصات خلاصة مركبة من تناقضات المتحرك والثابت في الاصول وقيمها النقدية بل في مستويات قوة القيمة النقدية ذاتها ـ كالدولار وقيمته الفعلية بيعا وشراءا ـ مما اضاف عمليا للبنوك ومصارف الائتمان والبورصات الكبيرة وظيفة خطيرة لوظائفها البدائية وهي وظيفة تسيير كل خطوط العمليات المالية والتحكم بمصائر اقتصاديات ليس دولها فقط وانما كل اقتصاديات المجتمعات الراسمالية الاحتكارية والتابعة لها وبمعنى اخر فانها هي من يقود السياسة في العالم وليس العكس !
ان الصعود الى النهاية ، يعني عمليا الانحدار الى حيث المستقر ، وهكذا ستفعل الراسمالية بنفسها ، المصيبة هنا ان الراسمالية في طريقها هذا تاخذ معها الى الاندثار ثروات وطاقات وبشر وجهود كان يمكن استثمارها لمكافحة الفقر والمرض والجهل والتلوث والبحث في افاق المستقبل وضمانات البقاء !
على هامش السيرة :
ضخ 700 مليار دولار لانقاذ الخسائر الائتمانية في البنوك الامريكية التي خسرت مايقارب من 1400 مليار دولار سيساعد على ايقاف النزيف لكنه لن ينقيه من الفيروس !
لقد اعابت امريكا على الدول الاسيوية في التسعينات تدخلات الدولة لضبط ايقاعات المصارف والبنوك كمعالجة عملية لازمتها المالية الحادة ، وها هي اليوم وحليفتها بريطانيا يتبعون نفس الاساليب بل ذهب براون ابعد من ذلك في دعوته لتاميم البنوك المتعثرة ، وهذا ساركوزي وعلى طريقته الصارخة يعلن ان هناك نظام غير مسؤول يقود العالم !
مسكينة ايسلندا فهي الدولة الاولى التي تعلن افلاسها تماما بسبب اتباعها الاعمى لنظام الائتمان الامريكي وعملية تدوير الديون والرهون دون تصفيتها ، حتى ان عملتها قد انهارت ، والملفت انها تحاول الاستدانة من روسيا ومن البنك الدولي الذي راح يرفع عقيرته لجمع اكبر الرساميل الممكنة لانقاذ ما يمكن انقاذه !
تقرير البنك الدولي الاخير يشير الى ان عدد الفقراء في العالم ارتفع ليصل الى 4 مليار نسمة من اصل حوالي 6 ونصف مليار نسمة المجموع الكلي لسكان الارض ، اما نسبة الفقر في امريكا فانه ايضا بتزايد مضطرد يزداد سنويا بمعدلات مضاعفة ، اما الاغنياء فهم يزدادون غنى في امريكا وغيرها !